فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

سورة الطلاق:
هذه السورة تسمى سورة النساء القصرى افتتحها الله سبحانه وتعالى بخطاب منه (للنبي) صلى الله عليه وسلم فقال: {يا أيها النبي إِذا طلّقْتُمُ}.
{يا أيها النبي} ثم جمع الخطاب فقال عزّ من قاتل {إِذا طلّقْتُمُ} ومجازها: يا أيها النبي قل لأُمتّك إذا طلقتم {النساء} أي أردتم تطليقهن كقوله: {فإِذا قرأت القرآن فاستعذ} [النحل: 98].
{فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} وهو أن يطلقها طاهرا من غير جماع، يقول: طلّقوهن لطهرهنّ الذي يحصينّه من عدّتهن، ولا تطلقوهن لحيضهنّ الذي لا يعتددن به من قروئهنّ، وهذا للمدخول بها؛ لأنّ من لم يُدخل بها لا عدّة عليها.
فإذا طلّقها في طُهر لم يجامعها فيه نفذ طلاقه وأصاب السُنّة، وإن طلّقها حائضا وقع الطلاق وأخطأ السُنّة.
وقال سعيد بن المسيّب في آخرين: لا يقع لأنّه خلاف ما أُمروا، وإليه ذهب الشيعة، فإن طلقها في طهرها ثلاثا فكرّهه قوم وقالوا ليس بطلاق السنّة؛ لأنّه لم يدع للإمساك موضعا، وكان الشافعي والجمهور يبيحونه ولا يكرّهونه لأنّ عبد الرحمن بن عوف طلّق امرأته ثلاثا، وإنّ العجلاني لمّا لاعن قال: كذبت عليها إن أمسكتها، هي طالق ثلاثا، فلم يردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم واختلف المفسّرون فيمن نزلت هذه الآية، قال: فأخبرنا ابن منجويه، حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شعبة، حدّثنا أبُو القاسم عمر بن عقبة بن الزبير الأنصاري، حدّثنا أبُو عبد الله محمّد ابن أيوّب بن معيد بن هناد الكوفي، حدّثنا اسباط بن محمّد، حدّثنا سعيد بن عروة عن قتادة عن أنس قال: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى: {يا أيها النبي إِذا طلّقْتُمُ النساء فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} وقيل له: راجعها فإنّها صوّامة قوّامة، وهي من إحدى أزواجك ونسائك في الجنّة.
وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر، وذلك أنّه طلّق امرأته حائضا وأمره النّبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ويمسكها حتّى تطهر، ثم تحيض حيضة أُخرى فإذا طهرت طلّقها إن شاء قبل أن يجامعها أو يمسكها، فإنّها العدّة التي أمر الله بها.
أخبرنا عبد الله بن حامد، حدّثنا محمد بن يعقوب، حدّثنا الحسن بن علي بن عفّان، حدّثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: «طلّقتُ امرأتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْهُ فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أُخرى، فإذا طهرت فليطلقها إن شاء قبل أن يجامعها أو يمسكها، فإنّها العدّة التي أمر الله تعالى أن يطلّق لها النساء».
قال فقلت لنافع ما صنعت التطليقة قال: واحدة اعتدّت بها.
وقال المقاتلان: نزلت في عبد الله بن عمُرو بن العاص وعمُرو بن سعيد بن العاص وطفيل بن الحرث وعتبه بن غزوان.
أخبرنا عبد الله بن حامد، حدّثنا أحمد بن عبد الله المزني، حدّثنا الحضرمي، حدّثنا عثمان، حدّثنا عبد السلم بن حرب عن يزيد الدالاني عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن قال: بلغ أبا موسى أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم وجد عليهم فأتاه فذكر ذلك له فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول أحدُكم: قد زوجت، قد طلّقت، وليس كذلك عدّة المسلمين، طلّقوا المرأة في قبل عدّتها».
وكان ابن عبّاس وابن عمر يقرءان: فطلّقوهنّ قبل عدّتهن، وفي هذه الآية دليل واضح أنّ السنّة والبدعة اعتبارهما في وقت الطّلاق لا في عدد الطلاق؛ لأنّ الله تعالى ذكر وقت الطّلاق فقال: {فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} ولم يذكر عدد الطّلاق، فكذلك في حديث ابن عمر الذّي رويناه دليل أنّ الاعتبار بالوقت لا بالعدد لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الوقت لا العدد.
فصل في ذكر بعض الأخبار الواردة في الطلاق:
أخبرنا الحسن بن فنجويه بقراءتي عليه حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبة، حدّثنا أبُو حامد أحمد بن جعفر المستملي، حدّثنا أبُو محمد يحيى بن إسحاق بن سافرى ببغداد، حدّثنا أحمد بن حباب، حدّثنا عيسى بن يونس، حدّثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطّلاق».
أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا ابن حبيش المقري، حدّثنا علي بن عبد الحميد العصاري بحلب، حدّثنا أبُو إبراهيم الترجماني، حدّثنا عمرو بن جُميع عن جويبر عن الضّحاك عن النزال بن سمرة عن علي رضي الله عنه عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «تزوّجوا ولا تطّلّقوا، فإنّ الطّلاق يهتزّ منه العرش».
أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبة، حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة أخبرنا أُبي، حدّثنا أبُو أُمامة عن حمّاد بن زيد عن أبي أيوّب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنّة».
أخبرنا الحصين بن محمد بن الحسين أخبرنا موسى بن محمد بن علي، حدّثنا عبد الله بن ناجية، حدّثنا وهب بن منبه، حدّثنا محمد بن عبد الملك الواسطي، حدّثنا عمُرو بن قيس الملائي عن عبد الله بن عيسى عن عمارة بن راشد عن عبادة بن نسي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطّلّقوا النساء إلاّ من ريبة فإنّ الله تعالى لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات».
أخبرنا ابن فنجويه أخبرنا أبُو حذيفة أحمد بن محمد بن علي، حدّثنا عبد الصمد بن سعيد قاضي حمص، حدّثنا عبد السلم بن العباس بن الوليد الحضرمي، أخبرنا علي بن خالد بن خليّ، حدّثنا أبي، حدّثنا سويد بن حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حلف بالطّلاق ولا استحلف به إلاّ منافق».
{وأحْصُواْ العدة} أي عدد أقرائها فاحفظوها.
{واتقوا الله ربّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ} حتى تنقضي عدتّهنّ.
{ولا يخْرُجْن إِلاّ أن يأْتِين بِفاحِشةٍ مُّبيِّنةٍ} وهي الزنا فيخرجن لإقامة الحد عليهنّ، هذا قول أكثر أهل المفسرين.
قال قتادة: معناه: له أن يطلّقها على نشوزها، فلها أن تتحول من بيت زوجها، والفاحشة: النشوز.
وقال ابن عمر والسدي: أي خروجها قبل انقضاء عدّتها فاحشة.
أنبأني عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن الحسن، حدّثنا الفضل بن المسيّب، حدّثنا سعيد، حدّثنا سُفير عن محمد بن عمُرو بن علقمة عن محمد بن إبراهيم التيمي عن ابن عباس في قوله: {إِلاّ أن يأْتِين بِفاحِشةٍ مُّبيِّنةٍ} قال: إلاّ أن تبدو على أهلها، فإذا بدت عليهم فقد حلّ إخراجها.
{وتِلْك حُدُودُ الله ومن يتعدّ حُدُود الله فقدْ ظلم نفْسهُ لا تدْرِى لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} أي مراجعة في الواحدة والثنتين ما دامت في العدّة.
أخبرنا عبد الله بن حامد قرأه عليه، حدّثنا محمد بن جعفر المطيري، حدّثنا الحسن بن عرفة، حدّثنا هيثم عن مغيرة وحصين عبد الرحمن وأشعث وإسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وشبان ومجالد كلّهم عن الشعبي قال: «دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: طلّقني زوجي البتّة، فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتدّ في بيت ابن أُمّ مكتوم».
قال هيثم: قال مجالد في حديثه: إنّما النفقة والسكنى على من كانت له المراجعة.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسين، حدّثنا أحمد بن يوسف، حدّثنا عبد الرزّاق، أخبرنا معمّر قال: أخبرنا عقيل بن محمد الفقيه أنّ أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمد بن جهير، حدّثنا ابن عبد الأعلى، حدّثنا ابن ثور عن معمّر عن الزهري عن عبيد الله أنّ فاطمة بنت قيس كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي وأنّه خرج مع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن حين أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن فأُرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها، وأمر عباس بن أبي ربيعة والحرث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا لها: والله مالك من نفقة إلاّ أن تكوني حاملا.
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما، فلم يجعل لها نفقة إلاّ أن تكون حاملا، واستأذنته في الانتقال، فأذن لها فقالت: أين أنتقل يا رسول الله؟ قال: «عند ابن أُمّ مكتوم» وكان أعمى، تضع ثيابها عنده ولا يراها، فلم تزل هنالك حتى مضت عدّتها، فأنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أُسامة ابن زيد، فأرسل إليها مروان بن الحكم قبيصة بن ذؤيب يسألها عن هذا الحديث، فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلاّ من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة حين بلغها قول ابن مروان: بيني وبينكم القرآن، قال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ} إلى قوله: {لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} قالت: هذا لمن كانت له مراجعة، فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث؟
{فإِذا بلغْن أجلهُنّ} أي أشرفن على انقضاء عدّتهنّ وقربن منه.
{فأمْسِكُوهُنّ} برجعة تراجعونهنّ. {بِمعْرُوفٍ أوْ فارِقُوهُنّ بِمعْرُوفٍ} أي اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهن فيكنّ منكم ويكنّ أملك لأنفسهنّ.
{تُضآرُّوهُنّ} فنزل الضرار هو المعروف.
{وأشْهِدُواْ ذوىْ عدْلٍ مِّنكُمْ} على الرجعة والفراق.
{وأقِيمُواْ الشهادة لله ذلِكُمْ يُوعظُ بِهِ من كان يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا} قال عكرمة والشعبي والضحاك: من يطلق السنة يجعل له مخرجا إلى الرجعة.
{ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ} لا يرجو ولا يتوقع.
قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنّ المشركين أسروا ابنا له يسمّى: سالما، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنّ العدوّ أسر ابني وشكا إليه أيضا الفاقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أمسى عند آل محمد إلاّ مُدْ فاتّق الله واصبر وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله» ففعل الرجل ذلك، فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه وكان فقيرا.
وقال الكلبي في رواية يوسف بن مالك: قدم ابنه ومعه خمسون بعيرا.
أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن عامر البلخي، حدّثنا القاسم بن عبّاد، حدّثنا صالح بن محمد الترمذي، حدّثنا أبُو علي غالب عن سلام بن سليم عن عبد الحميد عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنّ ابني أسره العدو وجزعت الأُم، فما تأمرني؟ قال: اتّق الله واصبر وآمرك وإيّاها أن تستكثر من قول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله. فانصرف إليها وقالت: ما قال لك النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرني وإياك أن نستكثر من قول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، قالت: نِعْم ما أمرك به، فجعلا يقولان فغفل عنه العدو فساق غنمهم فجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة، فنزلت {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ} ما ساق من الغنيمة».
وقال مقاتل: أصاب غنما ومتاعا ثمّ رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وسأله الحلّ له وأن يأكل ما أتاه به ابنه، فقال النبي عليه السلام: «نعم» وأنزل الله تعالى هذه الآية.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدّثنا عبد الله بن محمد بن شيبة، حدّثنا بن وهب، أخبرنا عبد الله بن إسحاق، حدّثنا عمرو بن الأشعث، حدّثنا سعد بن راشد الحنفي، حدّثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ} قال: مخرجا من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة».
وقال ابن مسعود ومسروق: {يجْعل لّهُ مخْرجا} هو أن يعلم أنّه من قِبل الله، وأنّ الله تعالى رازقه وهو معطيه ومانعه. الربيع بن خيثم: {يجْعل لّهُ مخْرجا} من كلّ شيء ضاق على الناس.
أبُو العالية: مخرجا من كلّ شدّة.
الحسن: مخرجا عمّا نهاه عنه.
الحسين بن الفضل: {ومن يتّقِ الله} في أداء الفرائض {يجْعل لّهُ مخْرجا} من العقوبة ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب.
وقال الصادق: ({ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ} يعني يبارك له فيما آتاه).
وقال سهل: {ومن يتّقِ الله} في اتّباع السُّنّة {يجْعل لّهُ مخْرجا} من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنّة من حيث لا يحتسب.
عمرو بن عثمان الصدفي: ومن يقف عند حدوده، ويحتسب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال، ومن الضّيق إلى السعة، ومن النّار إلى الجنّة.
أبُو سعيد الخرّاز: ومن يتبرأ من حوله وقوّته بالرجوع إليه يجعل له مخرجا مما كلّفهُ بالمعونه له.
علي بن صالح: {يجْعل لّهُ مخْرجا} يقنّعه برزقه، وقيل: ومن يتّق الله في الرزق وغيره بقطع العلائق يجعل له مخرجا بالكفاية ويرزقه من حيث لا يحتسب.
أخبرنا أبُو عبد الله بن فنجويه، أخبرنا أبُو مكي بن مالك المطيعي، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدّثنا معتمر عن كهمس عن أبي السليل عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّي لأعلم آية لو أخذ بها النّاس لكفتهم {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ} فما يزال يقولها ويعيدها».
ويحكى أنّ رجلا أتى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال: ولّني مما ولاّك الله قال أتقرأ القرآن؟ قال: لا. فقال: إنّا لا نولّي من لا يقرأ القرآن، فانصرف الرجل واجتهد في تعلّم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيولّيه عملا، فلمّا تعلم القرآن تخلّف عن عمر، فرآه ذات يوم فقال: يا هذا هجرتنا، فقال: يا أمير المؤمنين لست ممن يهجر، ولكنّي تعلّمت القرآن فأغناني الله تعالى عن عمر وعن باب عمر. فقال: أيُّ آية أغنتك، فقال: قول الله تعالى: {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ}.
أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد، أخبرنا أحمد بن محمد بن عّدوس، أخبرنا عثمان بن سعيد الرّازي، حدّثنا مهدي بن جعفر الرّملي، حدّثنا الوليد بن مسلم عن الحكم بن مصعب عن محمد بن علي عن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ويرزقهُ من حيثُ لا يحتسب».
{ومن يتوكّلْ على الله} فيثق به ويسكن قلبه إليه في الموجود والمفقود.
{فهُو حسْبُهُ إِنّ الله بالِغُ أمْرِهِ} قرأ العامة بالغ بالتنوين {أمْرِهِ} النّصب: أي منفِّذٌ أمره ممضى في حلقة قضائه، وقرأ طلحة بن مضر: {بالغ أمره} على الإضافة، ومثلهُ روى حفص والمفضل عن عاصم.
وقرأ داود بن أبي هند: {بالغ} بالتنوين {أمره} رفعا.
قال الفراء: أي أمرهُ بالغ.
قال عبد الرحمن بن نافع: لما نزلت {ومن يتوكّلْ على الله فهُو حسْبُهُ} قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبنا الله إذا توكلنا عليه؛ فنحن ننسى ما كان لنا ولا نحفظهُ، فأنزل الله تعالى: {إِنّ الله بالِغُ أمْرِهِ} يعني منكم وعليكم.
{قدْ جعل الله لِكُلِّ شيْءٍ قدْرا} حدا وأجلا ينتهي إليه.
قال مسروق: في هذه الآية {إِنّ الله بالِغُ أمْرِهِ} توكل عليه أو لم يتوكل، غير أنّ المتوكل عليه يكفِّر عنه سيئاته ويُعظم له أجرا.
قال الربيع: إنّ الله تعالى قضى على نفسه أنّ من توكل كفاهُ، ومن آمن به هداهُ، ومن أقرضهُ جازاهُ، ومن وثق به نجّاه، ومن دعاهُ أجاب له، وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {ومن يُؤْمِن بالله يهْدِ قلْبهُ} [التغابن: 11] {ومن يتوكّلْ على الله فهُو حسْبُهُ} [الطلاق: 3] {إِن تُقْرِضُواْ الله قرْضا حسنا يُضاعِفْهُ لكُمْ} [التغابن: 17] {ومن يعْتصِم بالله فقدْ هُدِي إلى صِراطٍ مُّسْتقِيمٍ} [آل عمران: 101] {وإِذا سألك عِبادِي عنِّي فإِنِّي قرِيبٌ...} [البقرة: 186].
{واللائي يئِسْن مِن المحيض مِن نِّسآئِكُمْ} فلا يرجون أن يحضن {إِنِ ارتبتم} قال قوم: إن شككتم أنّ الدم الذي يظهر منها لبكرها من الحيض أو من الاستحاضة.
{فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ} هذا قول الزهري وابن زيد وقال آخرون: إن ارتبتم في حملهنّ؛ فلم تدروا ما الحمل في عدتهن، فعدتهن ثلاثة أشهر.
أخبرنا أبُو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون، حدّثنا أبُو حاتم مكي بن عيدان، حدّثنا أبُو الأزهر أحمد بن الأزهر، حدّثنا أسباط محمد عن مطرف عن أبي عثمان عمرو بن سالم قال: لمّا نزلت عدّة النساء في سورة البقرة في المُطلقة المتوفى عنها زوجها، قال أُبي بن كعب: يا رسول الله إنّ أُناسا من أهل المدينة يقولون قد بقي من النساء ما لم يُذكر فيهن شيء.
قال: وما هو؟
قال: الصّغار والكبار وذوات الحمل، فنزلت هذه الآيات {واللائي يئِسْن مِن المحيض مِن نِّسآئِكُمْ...} إلى آخرها.
وقال مقاتل: لما نزلت {والمطلقات يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ ثلاثة قرواء} [البقرة: 228] الآية، قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري: يا رسول الله فما عدّة من لا تحيض وعدة التي لم تحض وعدّة الحُبلى؟ فأنزل الله تعالى: {واللائي يئِسْن مِن المحيض مِن نِّسآئِكُمْ} يعني القواعد اللاتي قعدن عن المحيض.
{إِنِ ارتبتم} شككتم في حالها وفي حكمها.
وقال أبُو علي الزهري: {إِنِ ارتبتم} إن تعنّتّم، قال: وهو من الأضداد، يكون شكا ويقينا كالظن، فعدتهن ثلاثة أشهر.
{واللائي لمْ يحِضْن} يعني بهنّ الصّغار.
{وأُوْلاتُ الأحمال أجلُهُنّ أن يضعْن حمْلهُنّ} في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهنّ.
قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، أخبرنا محمد بن محمد بن الحسن، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر بن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: «أُرسل مروان عبد الله بن عتبة إلى سبيعة بنت الحرث يسألها عمّا أنبأها به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنّها كانت عند سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الودّاع، وكان ثلاثا، فوضعت حملها قبل أن يمضي لها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجها وخطبها، قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ما قال أبُو السنابل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد حللتِ حين وضعتِ حملكِ وأمرها أن تتزوج».
فإن أريقت حيضة المرأة وهي شابة، فإنّها يُتأنّى بها أحامل أم لا؟ وإن استبان حملها فأجلها أن تضع حملها، وإن لم يستبن حملها فاختلف الفقهاء فيه:
فقال بعضهم: يُستأنى بها، فأقصى ذلك سنة، وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، كانوا يرون عدّة المرأة أرتفاع حيضها وهي شابة سنة، ورووا ذلك عن عمر وغيره.
فأمّا أهل العراق فإنّهم يرون عدتها ثلاث حيضات بعد ما كانت قد حاضت مرّة في عمرها وإن مكثت عشرين سنة إلى أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس من الحيض، فتكون عدّتها بعد الأياس ثلاثة أشهر، وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه العلماء، ورووا ذلك عن ابن مسعود وأصحابه.
{ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا} {ذلِك أمْرُ الله أنزلهُ إِليْكُمْ ومن يتّقِ الله يُكفِّرْ عنْهُ سيِّئاتِهِ ويُعْظِمْ لهُ أجْرا}.
{أسْكِنُوهُنّ} يعني مطلّقات نسائكم.
{حيْثُ سكنتُم} أي من المواضع التي سكنتم.
وقال الكسائي: {مِّن} صلة مجازة أسكنوهن حيثُ سكنتم، مطلقات نسائكم.
{مِّن وُجْدِكُمْ} سعتكم وطاقتكم، قراءة العامّة بضم الواو، وقرأ الأعرج بفتحه، وروى نوح عن يعقوب بكسر الواو، وكلّها لغات. حتى تنقضي عدتهن.
{ولا تُضآرُّوهُنّ} ولا تؤذوهن {لِتُضيِّقُواْ عليْهِنّ} مساكنهن فيخرجن.
{وإِن كُنّ أُوْلاتِ حمْلٍ فأنفِقُواْ عليْهِنّ حتى يضعْن حمْلهُنّ} ليخرجن من عدّتهن.
واختلف الفقهاء في هذه المسألة: فذهب مالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبُو عبيدة ومحمد بن جرير إلى أنّ المبتوتة المطلقة ثلاثا لا نفقة لها، ولها سُكنى، واحتجوا بأنّ الله تعالى عمّ بالسكنى المطلقات كلّهنّ، وخصّ بالنفقة أولات الأحمال خاصّة قال: {فأنفِقُواْ عليْهِنّ حتى يضعْن حمْلهُنّ}.
وقال أحمد وأبُو ثور: لا سُكنى لها ولا نفقة، واحتجوا بحديث فاطمة بنت قيس أخت الضّحاك بن قيس حين أرسل زوجها المخزومي طلاقها؛ فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة وقال لها: إنّما النفقة إذا كانت له عليك الرجعة، وأمرها أن تعتدّ في بيت ابن أُم مكتوم، وقد ذكرناه، وهذا قول أُبي بن كعب وزيد بن ثابت.
وأما سُفيان وأهل العراق فقالوا: لها السُكنى والنفقة حاملا كانت أو حايلا، وهذا قول عائشة رضي الله عنها.
ويروى أنّ عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله يا فاطمة فقد فتنتِ الناس؛ إنّما أخرجك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّكِ كنتِ امرأة لسِنة فخشي لسانكِ على أحمائك.
فأما نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال علي وابن عُمر وشُريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسُفر وأصحابه: يُنفق عليها من جميع المال حتى تضع.
وقال ابن عباس وعبد الله بن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبُو حنيفة: لا ينفق عليها إلاّ من نصيبها.
{فإِنْ أرْضعْن لكُمْ} أولادكم منهنّ {فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ} على إرضاعهنّ {وأْتمِرُواْ بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ} يقول: وليقبل بعضكم من بعض إذا أمرهُ بالمعروف، وقال الفرّاء: {وأْتمِرُواْ} همّوا. الكسائي: شاوروا.
{وإِن تعاسرْتُمْ} في الرّضاع؛ فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها، وأبت الأُم أن ترضعهُ فليس لهُ إكراهها على أرضاعهِ، ولكنهُ يستأجر للصبيّ مرضعا غير أُمه الباينة منهُ، فذلك قوله: {فستُرْضِعُ لهُ أخرى}.
{لِيُنفِقْ ذُو سعةٍ مِّن سعتِهِ} على قدر غناهُ {ومن قُدِر} ضُيّق {فلْيُنفِقْ ممآ آتاهُ الله} من المال.
{لا يُكلِّفُ الله نفْسا} في النفقة {إِلاّ مآ آتاها} أعطاها من المال.
{سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا} {وكأِيِّن مِّن قرْيةٍ عتتْ} عصت وطغت وتمردت {عنْ أمْرِ ربِّها ورُسُلِهِ} أي وأمر رسلهِ {فحاسبْناها حِسابا شدِيدا} بالمناقشة والاستقصاء {وعذّبْناها عذابا نُّكْرا} منكرا فظيعا، وهو عذاب النّار، لفظهما ماض ومعناهما الاستقبال.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير مجازها: فعذّبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والنوائب والبلايا والرزايا، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا. {فذاقتْ وبال أمْرِها وكان عاقِبةُ أمْرِها خُسْرا}.
{أعدّ الله لهُمْ عذابا شدِيدا فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنُواْ قدْ أنزل الله إِليْكُمْ ذِكْرا} يعني القرآن.
{رّسُولا} بدل من الذكر. وقيل: مع الرّسول. وقيل: وأرسل رسولا. وقيل: الذِّكر هو الرّسول. وقيل: أراد شرفا ثم بيّن ما هو فقال: {رسولا}.
{يتْلُواْ عليْكُمْ آياتِ الله مُبيِّناتٍ لِّيُخْرِج الذين آمنُواْ وعمِلُواْ الصالحات مِن الظلمات إِلى النور ومن يُؤْمِن بالله ويعْملْ صالِحا يُدْخِلْهُ جنّاتٍ تجْرِي مِن تحْتِها الأنهار خالِدِين فِيهآ أبدا قدْ أحْسن الله لهُ رِزْقا} {الله الذي خلق سبْع سماواتٍ ومِن الأرض مِثْلهُنّ} في العدد. {يتنزّلُ الأمر بيْنهُنّ} بالوحي من السماء السابعة إلى السفلى.
وقال أهل المعاني: هو ما يدبر فيهنّ من عجيب تدبيره؛ فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنّهار والشتاء والصّيف ويخلق الحيوان على اختلاف هيأتها وانواعها، وينقلهم من حال إلى حال.
قال ابن كيسان: وهذا على مجال اللغة واتساعها، كما يقول للموت أمْر الله، وللرياح والسحاب ونحوها.
وقال قتادة: في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقهِ، وأمر من أمره، وقضاء من قضائهِ.
{لتعلموا أنّ الله على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ وأنّ الله قدْ أحاط بِكُلِّ شيْءٍ عِلْما} فلا يخفى عليه شيء. اهـ.